رواية رومانسية بالعربية بعنوان : إشاعات
الجزء الأول
تنهدت بارتياح و تعب ما إن إنحرفت بسيارتي نحو المنعطف المألوف و المؤدي مباشرة إلى حي سكني . مدركة أنني قد إخترت أسوء يوم لقطع مسافة 338 كم من أقصى الشمال إلى حيث العاصمة الإقتصادية التي أقطن فيها . كان طقس اليوم جافا و حارا بشكل مزعج لا يحتمل ، فهكذا كان حاله لمايزيد عن الأسبوع ، لذا لم يكن هناك مهرب على أي حال .
فور وصولي ، أسرعت بالبحث عن مكان شاغر في المرآب المرفق للعمارة لأركن سيارتي ، لا أفكر في شيء سوى الحمام الدافئ الذي ينتظرني وسريري الناعم .
أعلم أن ملامحي الواجمة أضيئت بإنفراج ما إن حطت عيني على المستطيل الأصفر الشاغر، لأنني لا أستطيع تحمل دقيقة اخرى بحالي هذا . لم أكن قد تحركت بعد عندما راقبت السيارة البيضاء اللئيمة و هي تسرقه مني بكل صفاقة ثم توحشت ملامحي غضبا بشكل فوري و صببت على ذاك الغثيث المجهول بوابل من الشتائم .
متسائلة في الأخير مخاطبة نفسي "" خردة من هذه ؟ من هذا الوقح الذي يتجرأ على ... ""
كتم صوتي بشكل تام حين أجيب على سؤالي أسرع مما توقعت . و تسمرت حذقتي على خلف رأسه الأشقر و هو منشغل بحمل أكياس قماشية تحمل رمز المحل التجاري المعروف من المقعد الخلفي لسيارته .
إقترنت حواجبي بأحاسيس متداخلة من فضول ، نفور و كره .
لا يمكن أن يكون ذلك المعتوه ، فقد غادر البلد منذ سنين طويلة .
حسنا ، لقد بالغت ، يمكنه العودة أينما و وقتما شاء ، فنحن نعيش في بلد حر ، لكن لايمكنه التواجد في هذا الحي ، بل في هذه العمارة بالضبط .
و ذلك لسببين ، أولا ؛ أنا أمقته ، مهلا أمقته كلمة قوية . للوصول الى مرحلة كره شخص ما ، يجب أن تكون له قيمة معنوية قام بالطعن فيها مما أدى الى مشاعر الكره ، فالكره كما يقال هو الوجه الآخر للحب .
و هذا الرجل ؟! أنا فقط لم أستسغه في الماضي و لن أغير ذلك الآن .
اما بالنسبة للسبب الثاني ، انا أملك هذه العمارة بالإرث . و لا أذكر أنني قمت بإستئجار أية شقة من الشقتين الشاغرتين في العمارة له ..
أو يمكن ... ؟
عادت ملامحي للتوحش و أنا أتذكر بشكل مباغث أنني بالفعل لدي شريكة في الإرث و التي تملك أيضا حق التصرف في الشقق و إستئجارها .
كتمت صرخة غضب و أنا أدرك أنني أقف بشاحنتي في وسط الطريق ، فقد كان العم نجيب - واحد من المستأجرين من عهد أبي- يشير لي من سيارته لإبعاد شاحنتي ليمكنني بعد ذلك ركنها في مكانه .
تحركت بالفعل بعد ان هززت رأسي موافقة بهزة مضطربة و لم أنسى متابعة مراقبة ذاك ثقيل الدم و هو يتهادى في مشيته و كأنه مالك المكان ، محملا بأكياسه الصديقة للبيئة متوجها إلى باب العمارة الخلفي .
ركنت سيارتي بسرعة ما إن سمح العم نجيب بذلك ، رادة بإقتضاب على تحيته و ترحيبه بعودتي من السفر سالمة .
لاطالما كنت ودودة مع جميع المستأجرين أو على الاقل أحاول . فنصفهم مستأجرين قدامى شهدوا على نضجي سنة بعد سنة و اشتروا لي و أختي الحلوى و عايدوني أيام الاعياد ، فهم يعدون عائلة أكتر منه مجرد مستأجرين . لكنني لا أتحكم في لؤمي عندما أكون في مزاج منزعج كالآن .
ترجلت من شاحنتي من نوع ال"بيكآب" ، و لم أزعج نفسي بحمل حقيبتي ، ولا حتى بتعديل ملابسي المتجعدة بفعل الجلوس طويلا .
بل جريت داخلة من باب العمارة الخلفي ، و وقفت أمام السلالم و المصعد أفكر جديا في الصعود إلى أعلى ، و إكتشاف ما إن كان بالفعل قد أخد واحدة من الشقق الفارغة مسكنا .
لكنني آثرت أن أتوجه إلى أختي أولا ، و لا يوجد إلا مكانا واحدا يتوجب عليها أن تتواجد فيه حاليا - و هو متجر البقالة و الذي ينضم ضمن إرث ابينا و يوجد في الجهة الأمامية من العمارة .
جريت بدون تردد إلى هناك ، و كان التعب قد تلاشى كالبخار في الهواء بمفعول الغضب .
سأفقد أختي شعرها إن إتضح بالفعل أن ذاك الأشقر الثقيل بالفعل ينام تحت سقف من أملاكنا .
•🌸•🌻•🌸•
رفعت رأسها مبعدة عينيها عن شاشة الهاتف عند سماعها صوت الجرس الصغير المعلن دائما عن دخول زبون ما .
لكن لم تغادر فمها كلمة واحدة ، بل تسمرت في مكانها وراء الشباك الشبيه بطاولة و التي عليها مختلف باقي السلع الصغيرة كالسكاكر و العلك و علب السجائر .. الخ .
تتطلع إلي ، وبالطريقة التي اتسعت عينيها و زمت بها شفتيها ، أعلم عن يقين أنها بدأت تتوتر . أظن ان الثعلبة تعلم جيدا ماذا فعلت في غيابي ، رد فعل اختي بعد رؤيتي احدق فيها من عتبة المتجر يوحي إلى انها تستطيع رؤية الشياطين على كتفي ، و بذلك فهي تعلم أنه لن يكون لغضبي إلا سبب واحد - و هو معرفتي بما أقدمت عليه أثناء سفري .
خرجت اللعينة من وراء الشباك لتقترب مني ثم حضنتني مرحبة بإبتهاج و سرور مضطرب عطرها محيط بي كاللعنة "" حمدا لله على سلامتك يا حبيبة أختك الصغيرة ، لم أنت هنا ؟ ألم تخبريني من قبل على الهاتف أنك تعبة و ستتوجهين للبيت مباشرة -- ""
قاطعت تلعثم كلامها المثير للشفقة بحركتي و انا أحاول الخروج من بين ذراعيها ، و مباشرة و من دون أسمح لكلامها المعسول ان يسحرني ، أمسكت بشعرها الداكن المسترسل على كتفيها و لم أحتاج لأن أنزلها لمستوى طولي ، فقد كنت أنا من تفوقها طولا نحو الإنشين رغم أنني الأصغر .
"" أتمزحين ؟ من ذاك الذي رأيته في المرآب منذ قليل ؟ "" صحت بغضب متصاعد رغم أن صوتي الرقيق و المنخفض بطبيعته لا يدعم موقفي الغاضب .
مررت أختي الثعلبة عينيها من اليمين إلى الشمال بإضطراب ماكر تحاول إيجاد طريقة للإنفلات من قبضتي الغاضبة ، فرغم قدي الصغير ، فغضبي يعادل غضب كائن الغودزيلا الخرافي و اعلم هذا لأنه تم الإشارة الى غضبي الخارج عن السيطرة من أكثر من شخص في محيطي و لا يهمني إصلاح هذا العيب في لأنني أكثر من مسرورة باستعمال البشر كأكياس رمال للتخلص من توتري من حين لأخر .
"" من ؟ "" تجرأت على مراوغتي بالسؤال "" لا أعلم عن ما تتحدثين يا ملكة ..""
زاد عبوسي من مراوغة أختي فقد اثبتت لها اكثر من مرة ان طرقها لاتسري علي ، لكنها مصرة على الاستمرار في المحاولة في كل فرصة ، معتبرة اياي من باقي الاغبياء الذين يسقطون ضحايا لمراوغاتها . اللعينة تعلم جيدا انه لديها موهبة فذة في الكذب ، لكن لم تنجح يوما معي .. لقد ولى زمن كانت فيه ترهبني بكذبات خسيسة مثلها ، كترقب وقوع القمرعلى العمارة في وقت نومنا ، و الحقيقة الكاذبة الموحية إلى أنني متبناة ،و الغرفة المسكونة بالأشباح في سطح العمارة وأنني لو تركت مصروفي في المزهرية و وضعتها تحت النافذة الموجودة في غرفتها لليلة كاملة سيتضاعف وغيرها من كذبات و عمليات نصب ..
لقد كنت اصدقها بقلب طاهر و فكر بريئ ... اختي جردتني من براءتي في وقت مبكر و جعلتني أرى العالم من بقعته السوداء ..
بسبب أختي الكبيرة اواجه صعوبة في الثقة في البشر ..
"" ألم أجعل رفضي واضحا في إستئجار ذاك الأشقر الشقة في الشهر الماضي عند إتصاله بك ؟ "" شددت من قبضتي على شعرها "" ألم أجعله وااضحا ؟ ""
"" جعلته ، و الله جعلته "" إستمرت أختي الكبرى في التلعثم محاولة مسايرتني في مزاجي الأسود "" لذلك لم أفعل ""
أفلتتها و أنا أضيق عيني متشككة ، ثم إبتعدت مشيحة بالعسليتين التي ورثتهما عن أبي نحو أركان الدكان "" كيف هي الأمور ؟ "" ليس لي صبرا لاستجوابها ، فهي ستظل مصرة على الكذب و المراوغة الى اخر نفس و اعلم انها ستفضح نفسها في الاخير او سيتدخل القدر في فضح دناءتها كالعادة .
كانت أختي قد تنفست الصعداء مبتعدة عني رجوعا إلى خلف الشباك ، عسليتيها هي الأخرى تزيغ بمكر بعيد عن خاصتي المراقبتين ، تظن الغبية أنها تخلصت مني بعد ذاك المشهد الفاشل و هي تكذب في وجهي .
"" على حالها ، كما العادة "" أجابتني الماكرة محاولة إسترجاع نبرتها الملولة "" كيف حال أمي ؟ ""
عدت بأنظاري نحو أختي بعد ذكرها مثيرة المتاعب الاخرى و جعدت ملامحي بغيظ "" كلمتها أول البارحة على الهاتف ، ماذا تريدين أن تعرفي يا شوق ؟ المرأة في أحسن أحوالها ، بل زادت جمالا و صغرا . فقد إرتبطت بأخصائي تغذية إلتقته في أحد أمسياتها في الكازينو . ""
فغرت شوق فمها مقرنة حواجبها بصدمة و شعور بالخيانة "" لم تذكري هذا في أي من مكالماتنا طول أسبوع سفرك ؟ ""
صحت مجيبة بغيظ غير مستطيعة احتواء غضبي و انزعاجي من هذا الموضوع "" و لم سأفعل ؟ ما المهم في ذلك ؟ إنها علاقة نزوة أخرى ستبوء بالفشل قبل حتى أن تبدأ كسابقاتها ، ما الجديد ؟ ""
تنهدت شوق مستندة على الحافة بقبضتها على خدها و قالت بكئابة "" حياة أمنا أكثر إثارة من حياتنا نحن من في عز عشريناتنا . هذا مثير للإحباط حقا ""
هذا ما كان ينقصني ، ما الذي ساتوقعه من فارغة الجمجمة هذه غير تأييد جنون امها ؟
"" إسمعي يا شوق "" خاطبتها متجاهلة تعليقها ، فجأة اخدت نبرتي منحى أكثر جدية و أكثر صرامة "" لن نرسل بنسا واحدا آخر لأمك . أنا مللت سلوكياتها الطائشة و كأنها هي الإبنة المراهقة . لن أحرق دمي لأعمل جاهدة بشكل يومي ، لأبعث بمال عرق جبيني إليها في الأخير لتحرقه في ثواني من لعب القمار . لقد حذرتها سابقا و لم تستجب ، و زيارتي المفاجئة لها .... حسنا ، لقد مسكتها بالجرم المشهود ""
"" و هل أخبرتها بقرارك ؟ "" ردت شوق بهدوء وعبوس .
"" لا ، تناقشنا كثيرا ، و فهمت في كل مناقشة لنا ، أنها لن تتوقف عن عادتها المقيتة . لذلك ، سأتصرف الآن و سأحرص على أن أجعلها تمر من وقت عصيب إلى أن تتوقف عن إدمانها ذاك . ""
بدا القلق على ملامح شوق و هي تستشعر الجدية في نبرتي ، فحدثتي بلين محاولة دمث موقفي"" ملكة ، إنها أمنا لا يجب عليك نسيان ذلك ""
أقدم لكم أختي ، الضحية المثالية للمتلاعبين أمثالها ..
"" و إن كانت أمنا ، نغمض أعيننا عن طيشها الصبياني ؟ "" صحت بحنق غير متزحزحة عن موقفي .
"" لا ، لكنك تعرفين ظروفها ، منذ موت أبي ضاع طريقها . و هاهي هائمة في بلاد غريب تبحث عن ملاذها من وجع فراقه ، و لم تجد إلا القمار و السفر و المواعدة آملة أن تلتقي حبا آخر . لا تقسي عليها أرجوك ،فهي إمرأة بقلب طفلة و لا تملك أحدا غيرنا ""
لوهلة ، ظنت شوق أنها بالفعل نجحت في تليين موقفي عندما صمتت للحظة ، لكن ما أجبتها به أحبط مبتغاها "" لا تبعثي لها المال ، فلتعمل و تجني مالها بنفسها . ""
ثم خرجت من الدكان كما دخلت بخطوات كالإعصار ، تاركة شوق في دوامة من الإحباط و الحنق .
•🌸•🌻•🌸•
ارتداء ملابسي و تجفيف شعري من الماء كانت الأنشطة الحركية الوحيدة التي إستطعت إتمامها بعد حمامي . لم أجد في جسدي قدرة لتحضير أكلي حتى ، فقد قررت فعل ذلك بعد أخد قسط من النوم .
تنهدت بإرتياح و أرخيت عضلاتي فوران داعبت انفي رائحة سريري الخزامية . شوق تدفن في أركانه حزمات من الخزامى كلما نظفت الأغطية . تعبق السرير برائحتها اللطيفة و تساعدني على الإسترخاء و النوم بعمق بعد كل يوم طويل .
كانت هذه عادة ورثتها أختي عن أبي وبشكل سري أقدر تشبتها بالعادة ، فهي تذكرني به .
لم أكن قد أغمضت جفني الملتصقين على بعض عندما علا صوت رنين هاتفي جانب سريري . قمت لاعنة ، لائمة نفسي على نسياني إغلاقه .
بسبب تعبي ، لم أقرأ إسم المتصل حتى ، فقط سحبت أيقونة الإجابة ثم عدت إلى وسادتي بالهاتف على أذني و عيناي مغمضتين .
"" وصلتي إذا ؟ ""
وصلني الصوت الذكوري الشبابي السلس و المألوف ، نبرته ملولة تعبة كما تعودتها في السنوات الثلات الأخيرة .
توقيته دائما .... ! بما انه يعلم انني وصلت لتوي فمن اللباقة ان يؤجل اتصاله لوقت لاحق . لكن لااااا ، فهذا الرجل ينتمي الى برج حيوان ينبح ..
"" أنا أيضا وصلت لتوي "" لم يعطني فرصة لأجيب ، فقد رمى القنبلة مشتعلة .
وصل لتوه ؟ ماذا يقصد بقوله ؟
قمت من فراشي مصعوقة ، ولا اثر للتعب في جسدي من صدمتي .
"" إلى أين وصلت بالضبط ؟ "" سألته بحذر شديد محاولة فهم إن استوعبت ما أشار إليه بطريقة خطأ .
لكن السخرية التي إنضافت إلى نبرته الملولة ، أثبتت صح فهمي و هو يؤكد بالقول "" هيا يا فتاة ، تعلمين أين ، لكن ليس الحي "" صمت قليلا ثم أتمم "" ليس بعد ""
صحت "" ماذا تعني ؟ هل عدت حقا؟ لم لم تخبرني بذلك ؟ ""
هذا الرجل سيتسبب لي بالجنون يوما ما ، دوما ما يفعل اشياء كهذه ، فقد ليزعجني .
"" أنا أخبرك الآن "" عادت نبرته الملولة "" هيا الآن أنت متعبة و تحتاجين قسطا من الراحة ، سأنتظر إتصالك الليلة ، حسنا ؟""
"" إنتظر "" صحت ثم قمت من مكاني ، هل فعلا يظن انني سأتقبل خبره الصاعقي بسهولة ؟ "" أين أنت ؟ سآتي إليك ""
"" قلت الليلة يا ملكة ، الليلة ، لدي ما أقوم به الآن "" صرامة جوابه منعتني من الإصرارأكثر ..
فسألته مستفسرة "" هل عدت حقا ؟ يعني أنك توجد في نفس المدينة في تلك اللحظة ؟ ""
لا أعلم لماذا لا استطيع تصديقه بشكل كامل رغم انني اعلم انه قادر على فعل اغبى و اكثر الامور جنونا طول الوقت .
"" ما بالك ؟ لماذا لا تصدقين ذلك ، أهو شيء مستحيل ؟ فأنا لم أغب سوى سنتين و نصف ... ليس وقتا كافيا لأصبح غريبا عن الحي "" كان دوره هو الآن في الصياح و على ما يبدو قد أثرت غيظه بالسؤال بشكل متكرر .
جيد ..
"" حسنا ، حسنا "" أعطيت نفسي مهلة لأتمالك نفسي ، ثم مباشرة ضربتني موجة من الإدراك ، فتُرِكت بإحساسين مختلفين .
السرور و القلق .
القلق غلب سروري فلم استطع التعبير عن سروري بعودته ، و ذات القلق صبغ نبرتي بدون ان استطيع السيطرة عليه و أنا أوصيه "" سوف أتصل بك الليلة ، لا أظنك تملك مكانا للمبيت ؟ ""
"" انا في فندق وسط المدينة "" اجابني بهدوء .
"" لماذا تنزل في فندق و انا أملك عمارة بأكملها يا هذا ، ما بالكم اليوم ستجننونني ؟ "" عدت إلى صياحي من جديد .
"" لا تنفجري أرجوك ""تجرأ على إجابتي مداعبا بسخرية "" سنتحدث في هذا الليلة ""
مهلا ، أنيرت ملامحي فجأة "" هل ستسكن شقة من عمارتي ؟""
"" نالي قسطك من الراحة ، سنتحدث فيما بعد "" كانت نبرته مبتسمة قبل إنهاء المكالمة من جانبه ، مما زاد من تفاؤلي .
هل حقا سيضع حدا لوحدتي بالسكن قريبا مني من جديد ؟
لا طالما رغبت في عودته إلى الحي و رؤيته كل يوم كما أيام الإعدادية و الثانوية و حتى ما بعدها . لقد إشتقت رفقته ، فالمكالمات الهاتفية و حتى المكالمات البصرية اليومية و الزيارات القليلة لم تكن كافية . لكن قلقي عليه و على وضعه منعني من طلب ذلك منه .
لكن بما انه عاد من نفسه الآن ، هل يمكنني ان أبتهج بانانية ؟
عدت إلى سريري و جلست على حافته في سهوة من التفكير . تحديدا في الماضي و ألم الخسارة الذي ولى معه .
متسائلة في سهوتي - هل عودته ستكون خطوة نحو الأمام بشكل كلي و نهائي ، أم هي خطوة بداية لكن .... إلى الوراء ... ؟
•🌸•🌻•🌸•
لاحقا ، إستيقظت على رائحة السمك يقلى قليا في الزيت ، فقمت بعيون شبه مغمضة أجر قدمي الحافيتين على برودة البلاط و أصابعي تحك قمة رأسي .
معرفة جسدي للبيت -الذي ترعرعت فيه- حق معرفة ، تتولى قيادتي نحو المطبخ . كما أن رائحة الأكل الفواحة في كل ركن في البيت قامت أيضا بالعمل نظرا لزمجرة بطني العالية .
عند دخولي المطبخ لم أجد أختي كما المتوقع ، لكن لم امنع نفسي من التقدم نحو الموقد الكهربائي ، فأنا لم أكن أبحث عن أختي الكبرى على أي حال .
فتحت القدر الأقرب إلى يدي ، و هجمت حاستي رائحة الارز المطهي مع الخضر و القريدس و بطن الكركند . رددت على الرائحة المغرية بالهجوم على القدر بملعقة خشبية أفسدت بها ترتيبه ، حاملة بمحتواها إلى فمي .بعيوني مغمضتين ، قشعريرة دبت في كل أوصالي من الطعم اللذيذ المسكر . بفمي المحشو حد الإمتلاء أخدت أمضغ و أنا أفتح غطاء قدر آخر بنية غزوه كما حدث لسابقه ، لكن الغطاء سقط من قبضتي فورا إثر الصفعة التي لسعت ظهر يدي و صياح من الخنزيرة أختي "" من أين نبتت أنت ؟ أتركي هذا من يدك ، و إغسلي وجهك من خط اللعاب المقزز ذاك أولا . الطعام لن يهرب . ""
تحركت بكسل لاعنة ، لازالت أمضغ ، وضعت يدي أمام شفاهي حرصا من أن يقفز الأرز من فمي و تكلمت بكسل من أثر النوم "" أنا جائعة جدا ، أستطيع أكل جمل . ""
دفعتني الحنونة نحو باب المطبخ "" لا يا حبيبتي ، ستكتفين بملعقتين أرز و سمكتين مقليتين و بعضا من السلطة ، لا تبالغي . هيا ، و عودي لمساعدتي في تحضير المائدة . ""
جررت قدمي بتهالك عائدة إلى غرفتي . أنرتها و إنتعلت خف البيت و عدت خارجة باتجاهي إلى الحمام . بعد إستعماله ، غسلت وجهي و يدي و مشطت شعري الداكن المتوسط الطول بإتجاه الخلف و رفعته بشكل فوضوي بمقبض فوق رأسي . ثم سكنت أراقب إنعكاسي عبر المرآة و تنهدت بالقول "" يا إلاهي ! "" و أبعدت عيني عن المرآة او عن المنظر المفجع الذي تعكسه، فقد كان وجهي منتفخا من شدة و عمق النوم لساعات طويلة .
كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساءا بالنظر إلى الساعة المعلقة في الردهة ، الساعة المتأخرة أرشدت تفكيري إليه و سجلت في ذهني أنه علي الإسراع في الأكل لمكالمته بعدها .
عند وصولي المائدة ، كانت أختي قد إنتهت بالفعل من تحضيرها . جلست في مقعدي أدعي عدم الانتباه لحركات أختي المضطربة ، لست متأكدة من ما تخفيه ، لكنني سأهتم بها بعد الانتهاء من الاخر ، فالمكالمة التي سأقوم بها بعد إنتهائي من الأكل هي ماتشغلني الان .
لكن كل هذا بعد انتهائي من الاكل ، كل شيء يستطيع الإنتظار ، إلا الجوع !
و أنا أمضغ قطعة خيار مخلل أخبرت أختي "" نور عاد ""
"" نور عاد ؟! "" أعادت شوق كلامي بغباء أولا ثم فكت تجعيد ملامحها فاتحة أعينها و فمها أيضا بإدراك متأخر "" قلتي نور عاد ؟ يا إلاهي لم قد يفعل الأحمق شيئا كهذا ؟ و لماذا تخبريني بهذا الخبر بذاك الوجه الملول و كأنك تخبرينني بأحوال الطقس ""
عبست منزعجة من كثرة كلامها ، ثم وجهت أنظاري إليها "" ماذا تريدينني ان افعل ؟ هو حر، فليفعل مايريد ""
"" ليس هذا ما قصدت "" قالت شوق و هي تمد يديها امامها بتفسير "" ديمنة في الأرجاء . و بمعرفتي نور ، لن يحتمل ما ستراه عيناه ""
اللعنة على هذه السيرة و ماستجلبه لي من وجع الرأس ..
"" لا تذكري إسم تلك الساقطة في هذا البيت . كما أن الماضي ماضي . و على كل مننا أن يتجاوزه . بالأخص نور ، فقد كان المتضرر الأكبر . لن يبقى منفيا في مدينة أخرى لم يطق دقيقة واحدة فيها فقط ليتهرب أو يختبأ من المحتوم . حان الوقت لتطوى تلك الصفحة الآن و إلى الأبد . ""
ينتابني شعور وكأنني أحاول إقناع نفسي و ليس اختي .
لوت شوق شفتيها بتشكيك "" لا أظنها بتلك السهولة . فمشكلته لا تنتهي مع ديمنة فقط ، فهناك ماهو أكبر من ذلك و أنت تعلمين ما الذي أعنيه ""
عظيم ، حتى الغبية اختي ليست مقتنعة بهذا الهراء ..
وضعت شوكتي بعد ان سرقت مني شهيتي للطعام بكلامها "" أنا متوترة بما يكفي من هذا الموضوع ، لا أحتاجك أن تزيدي على ما بي ""
قمت من مقعدي و رفعت شوق عينيها نحوي بإرتباك شممت رائحته "" إلى أين ؟ لم تكملي أكلك ! ""
رفعت صحني من الطاولة متوجهة إلى المطبخ و أنا أخبرها "" سآكل عندما أعود ، علي مكالمته و مقابلته أولا ، بالي مشغول و لم تبقى لي شهية الآن ""
وضعت صحني في المغسل ثم أثارت إنتباهي صينية أكل ، إستغربت لانها واضح أنها محضرة لشخص ما . و قبل أن يغادر تساؤلي فمي ، نادت شوق بفم ممتلئ "" هاتفك يرن ""
خرجت بسرعة مهرولة إلى غرفتي ، متاكدة أن نورهو المتصل "" أنا آتية إليك "" قلت ما إن رديت .
"" كيف إستطعت النوم كل هذا الوقت ؟ لا منوم يستطيع إفقادي الوعي في منتصف النهار إلى آخر المساء هكذا "" ثرثر كعادته .
"" أنت مبني بإختلاف عن البشر الطبيعيين ، إبعث عنوانك ""
"" سأبعثه ، مشتاق لرؤيتك و ديمنة جدا "" نبرته الحنون ذكرتني في الأيام الخوالي .
أغمضت عيناي لبرهة تاركة لشعورالدافئ ان يغلف قلبي و انا اجيبه بصدق "" و أنا كذلك يا نور ""
•🌸•🌻•🌸•
كنت قد غيرت ملابسي إلى سروال دينيم أزرق شاحب و قميص قصير الأكمام باللون الرمادي و تركت شعري على حاله كما ربطته في الحمام سابقا .
"" أنا سأخرج لبعض الوقت "" أعلمت أختي التي لن تعطي بنسا من الاهتمام لما افعله و أنا أنتعل حذائي الرياضي قرب الباب الرئيسي .
إستدارت أختي لمنحاي تطالعني بإستغراب و هي تمضغ ما يملئ فمها "" ستقابلينه الآن ؟ ""
افضل رد للأسئلة الغبية هو التجاهل و هذا ردي لاغلب ما تقوله اختي .
و أنا أضع هاتفي في جيبي أوصيتها "" لا تقفلي الباب من الداخل و تنامي لتتركينني في الخارج إلى وجه الصبح . لازلت ألعنك كلما تذكرت فعلتك في الصيف الماضي ""
"" و تخبرينني أن دعواتك علي هي سبب قلة حظي في الحياة في وجهي بكل وقاحة ؟ "" قالت و غصت الغبية بطعامها ثم أخدت تسعل و هي تمد يدها تسكب المياه في كأسها الفارغ .
لوحت برأسي وانا أراقب أختي بعيون محاكمة ثم غادرت البيت .
الليلة حملت في ريحها نسيما صيفيا منعشا خلافا عن وسط النهار الجاف و الحار . صراخ الأطفال و هم يلعبون في الحي حتى ما بعد صلاة العشاء هو طقس لا يغرب عن ليالي الصيف الجميلة .
جو يذكرني بذات وقت كنت ألعب في ذات الحي ، يوم كانت الأحلام تبدو سهلة المنال بكل سذاجة ، يوم كانت الصداقة مصانة ببراءة الطفولة ، لكن الأخيرة لم تدم يوما و لن تفعل ...
أخرجت سيارتي من ركنها في المرآب و تحركت إلى وجهتي ، حركت إصبعي نحو مذياع السيارة لأقتل الصمت المقيت المحيط بي.
لكن صوت المذياع إنخرس من مسمعي عندما لمحتهما يقفان إلى جنب بعضهما يتغازلان في وسط الطريق .
شيطان إنبثق على كتفي الأيسر و وسوس لي بدهس الخائنة و اللقيط و لا أتخطاهما إلا و انا متأكدة أنني ألصقت وجهيهما على سطح الإسمنت القاسي .
لكنني لن أفعل ، لم أكن لأحمل في داخلي نزعة للإنتقام . رغم أن الثنائي أمام عيناي كانا سببا مباشرا في هدم أحلى ما كمل طفولتي ، دائرة صداقتي و الحلم الذي جمعنا .
دفعت بوق السيارة بعنف مما سبب في إجفالهما ثم القفز إلى جانب الطريق للسماح لسيارتي بالمرور ، لم أنتظر لسماع تقريعهما ،لكن رغم ذلك سمعت تهديدا شرسا منه هو و نعت بالمجنونة منها هي .
نعم ، من بين الاثنتين مننا ...أنا المجنونة ..!
عبرت بسيارتي بدون رد شفوي ، ولم أكن متسامحة كليا ، فقد أخرجت أصبع الوسطى من نافذتي في حركة مهينة لهما و تركت الجواب واضحا لمرآهما .
•🌸•🌻•🌸•